الجزء الخامس
وسارت
الأمور بعد صلاة العصر فى الطريق الذى رسمه الأب بعد أن آب للمنزل وسلم
آله ما ابتاعه من إ حتياجات الرضيع وانتظر ثمه حتى انتهت - فى جو من
السعادة والمرح - مراسم رعايته وتوجيبه ثم خرج به وبإبنته قاصدا قسم الشرطة
ومع قربه من المسكن فإنه آثر أن يستقلوا سيارة " أجره " ليتجنبوا نظرات
الجيران وفضول المارة من أهل الشارع الذين يعرفونه جيدا .
وهناك فى
القسم قدم البلاغ على الوجه الذى أملاه عليه الضابط " النوبتجى " وشرح
فيه بكل دقة كيف وأين ومتى عثرت الفتاة على الرضيع .. وفى النهاية طلب إليه
مراجعة ماتوصلت إليه النيابة العامة من قرار
بعد إستطلاع رأى الشئون
الإجتماعية ومؤسسة رعاية الأيتام بعد ظهر اليوم التالى وكان هذا يعنى
عودتهما بالطفل ثانية للبيت وفرحت البنت - أيما فرح – وأعلنت ذلك بطريقة
إبتسم لها الضابط بإستغراب وخشى
والدها أن تفوه بكلمة من أوهامها تثير ريبته فعاجله موضحا بقوله :
- إنها مغرمة بالأطفال الرضع بصورةغريبة وتضع نفسها وأسرتها فى مواقف لاتحسد عليها كا ترى سعادتك !
فهز الضابط رأسه متفهما .. وإنصرفا بالطفل .
وكان
الصباح التالى غاية فى التأزم وسقوط الأمور غير المقبولة فى الأيدى
العاجزة فقد أمر الوالد إبنته بالتوجه للمدرسة تاركة له " وحده " تصريف
المستجدات التى تراها جهات الإختصاص مناسبة للوليد وكيف
أنه من الآن
فصاعدا لن يلبى لها أية رغبة - مهما كانت هينة - إن ركبت رأسها ! والغريب
أن تهديده لم يزدها - كما تخوف - إلا تمسكا متعللة بأن تغيب يوم واحد عن
الدراسة لن يضيرها ويمكنها بمراجعة مع زميلاتها تعويضه والأغرب أن يتنازل –
وهذا خطأ فادح - لفتت الأم نظره إليه متذرعا لها بأن وجودها مع الوليد
سيهدىء من روعه ثم أنه فى حد ذاته من الأهمية بمكان لأنها التى عثرت عليه .
وبعد
صلاة الظهر ذهبا بالوليد لقسم الشرطة يستعلمان فوجدا السلطلة المعنية قد
توصلت إلى قراربتواريخ تنفيذية محددة بأن يتم تسليمه لأم بالأجر ترعاه إلى
أن يبلغ العام ومن ثم يدفع به إلى أحد ملاجىء الأيتام
التى لا تقبل الأطفال الذين تقل سنهم عن سنة !
ومرة
ثانية تفرح رضوى فرحة عارمة تستدعى بسمة أكبر منها علامة الإستفهام التى
ملأت وجه الضابط من غرابة أطوار تلك الفتاة الصغيرة التى إعتقدت أنهم
سيتركونه لها عاما بأكمله .. واشتد بأبيها الخوف من أن يصدر عنها مالا
تسعفه حيلته هذه المرة لتبرير ولعها بهذا الصغير بالذات !ونظر إليها كأنما
يستعطفها وفى ذات الوقت اشفق على نفسه من أن يتدنى حاله معها إلى هذه
الدرجة فأدخله هذا فى حالة شبيهة
بحالة
إنعدام الوزن وألفى نفسه – بلا إرادة – يستشعر وكأنه طائر بجناحين يساير
محبوبته الصغيرة محلقا فى أجواء لم يعتد علوها الشاهق من قبل ولاحتى فى
قابل أيامه عندما كان مراهقا مشبوب العاطفة واسع الخيال .. أجواء صافية
وضاءة لم ير مثيلا لنقائها ونورها .. كأنهما يرفان معا فى سماء ليلة معجزة
مثل ليلة القدر او فى إحدى سموات الجنة السبع الأقرب إلى " عليين " التى
يطير فيها أبرار بين قمم أشجارباسقة لكلمات طيبة لم يقدرعلى قولها من أهل
الأرض إلا القلة النادرة ولم يرتقيها لأعلى إلا كل ذى نفس مطمئنة وهم ليسوا
من الكثرة التى تناسب ثبات أصول الشجرة فى الأرض ! .. أبرار بوجوه إنسانية
ملائكية وبأجساد وأجنحة طيورالجنة الفيروزية النورانية أتوا من بلاد
وأراضين عدة غير أن الذين جاءوا منهم من أرض الأنبياء أكثر لأن هناك
"ضحية" عالم ظالم تبحث لنفسها بالمذابح والمحارق عن أرض وطن! معها
حق والله محبوبته فى ولعها بهذا الرضيع بالذات .. معها حق !
- معها حق !
- أفندم !
تساءل
الضابط فإنتبه ألأب من حلمه - الذى إستحوز عليه وهو يقظ يقف على قدميه -
بسرعة فائقة ..وأرخى النظر عن إبنته التى فوجئت بعدد من السيدات الجالسات
فى غرفة الضابط تتهافتن عليها كل واحدة
تبغى
خطف الطفل منها بمجرد أن وقعت أبصارهن عليه بين ذراعيها وتنافسن فى ذلك
لدرجة هددت سلامتة وأمنها .. فأسرع الضابط بإبعادهن على حين صاحت الفتاة
فيهن مكشرة عن أنياب لم يسبق لوالدها أن
رآها قبلا :
-
على جثتى لو أخذه أحد منى ! انا التى وجدته وأنا الأحق به ! لايظنن أحد
أنه لقيط أو رزق حدفه الله عليه .. إن له إسم ووطن وأهل جبابرة لاقبل لأحد
بملاقاتهم ! وهو لى .. لى .. أنا التى أعرف قيمته !
وعلا
صراخ الطفل لما سمع صياحها وكأنه يعلن للقاصى والدانى تضامنه معها ولم
يهدأ إلابعد أن إنتحت به جانبا حالسة على " دكة " خشبية منزوية فى أحد
الأركان وإلتقطت من حقيبة يد صغيرة كانت تحملها
طول
الوقت " بزازة رضاعة " وألقمتها فى فيه فسكن تماما ومضى فى شفط محلول
اللبن بنهم مصدرا صوتا شبه منتظم من توالى إلتحام وإنفراج شفتيه بين الفينة
والفينة بجلد " البزازة " المصنوع من مادة بلاستيكية شفافة ومرنة فيما
يشبه " المزمزة " ! وأنظار الحضور جميعا بما فيهم النسوة اللائى أتين
ينشدنه لسبب لا تعلمه حتى ذاك الحين فهى لاتدرى .. من إستدعاهن ؟ وكيف
بلغهن خبره ؟ ومن أين أتين ؟
ولماذا هذا التكالب على إقتنائه ؟ ,
كانت
رقة الحال تبدو عليهن من ثيابهن ومن طريقتهن فى الحديث والتعبيرات
والألفاظ التى تتبادلنها وكأنهن فى سوق شعبى للخضار أو على شفا معركة
تستخدم فيها بإفراط قاذفات الشتائم ! ثم على حين غرة وقع ما لم تحلم رضوى
بحدوثه ...
تابع ...
الجزء السادس
عندما
حضرت السيدة " مآثر " مفتشة الشئون الإجتماعية فسرت بينهن همهمات وهمسات
وشهقات ونظرات وعبرات غير مفهومة وكأنهن رأين عدوا لدودا قويا لاقبل لهن
بمواجهته وخصوصا حال تدافعت أنظارها نحوهن والشرر يتطاير من عينيها مزمجرة
بصوت عال مخاطبة إياهن وكأنها تصرخ فيهن :
-
أنتن هنا ؟ .. مرة أخرى .. ؟ ألم أنبه عليكن ألا أرى وجوهكن فى أى مكان
أذهب إليه ؟! .. هيا من هنا .. هيا يادلالات الأطفال وإلا كتبت فيكن بلاغا
للنيابة يفضى بكن للسجن !
وميزت رضوى وهى ترنو بعينين تلتمعان إكبارا
وغبطة إلى المفتشة التى تمارس واجبات وظيفتها بعض عبارات مثل " لا .. وعلى
إيه الطيب أحسن ! " و " إحنا كنا فين والست دى فين ؟! " و " ربنا على
القوى والمفترى ! " ومثل " يا للا يا بنات ال ... ! " وهن تتدافسن أيهن
تسبق الأخرى إلى باب الإنصراف تتخبط مؤخراتهن فى بعضهن مما كان له بالغ
الأثر فى نفس رضوى وجميع الحاضرين الذين شاهدوا
المنظر الفكه فتعالت
القهقهات من كل جانب واستنار محيا الصغيرة ببداية فرحة وهى ترى الساحة وقد
خلت إلا منها وأيضا لأن الوليد كان يثبت عينيه على هذا المحيا الطاهر
الجميل لاتبرحانه ! واستبشرت خيرا
بذلك وبالسيدة التى حضرت لتضع النقاط
على الحروف وإن كان قد أخذها الدهش والإنبهار لحظة ظهورها بعض الشىء ولاحظ
والدها والحضور جميعا فيما بعد أن ثمة شعور بالود متبادل بينهما وبالذات
حين شهقت السشيدة لدى مرآها وهى مكبة على الطفل تكاد أن تحتضنه وهى ترضعه
وبصوت منغم يعبر عما يجيش فى صدرها من عجب للمفاجأة واتجهت نحوها بعد ان
حيت الضابط بقولها :
- السلام عليكم ياحضرة الضابط .. السلام عليكم جميعا !
ولم تنتظر رد التحية إذ غلبها فضولها فأنشأت تخاطب رضوى :
- رضوى .. أأنت الفتاة التى عثرت على الطفل .. آخر ما كنت أتوقعه ! أنت التى تطالبين بحضانته ؟ ولكنك قاصر يا حبيبتى !
وإنبرت
عليها تقبلها ثم أمسكت بالطفل من جانبيه ورفعته لأعلى لتطالعه وتفحصه جيدا
وكأن الوليد لم يعجبه تلك الحركة منها ولا نظراتها النافذة التى تخترق بها
وجوده فتعالى صراخه بطريقة ملأت ربوع المكان إزعاجا فأعادته إليها بتأفف
ولم تبدى أى عطف عليه فإنها إنما كانت تؤدى عملها فحسب ! وغمغمت موجهة
حديثها إلى الأب وهى تجلس قبالته على المقعد الثانى الفارغ أمام مكتب
الضابط وبلهجة إتخذت
بغتة غنة الوقار والإحترام :
- بابا رضوى ؟ .. انا أم زميلتها بالمدرسة .. نحن نقطن فى الشارع الخلفى لفيلتكم .. ألا تعرفنى ؟ !
أجابها
معبرا عن سعادته بحضورها وبأنه سمع عنها من إبنته وزاد على ذلك بأنه يتوقع
منها المعاونة للخروج بسلام من " الورطة " التى شغلتهم رضوى بها فأكدت
له أنها ستبذل مافى وسعها وهى تهون الأمر قائلة :
- ولا ورطة ولاشىء !
وعلى
الفور جرى حديث مطول بينها وبين الضابط فإكتفى بالإنصات إليهما باهتمام
دون أن يتدخل فى الحديث متاملا منظر إبنته وقد إشرأبت برأسها للأمام وأدارت
جانب رأسها قليلا واهتمامها موزع بين تشنيف
أذنيها حتى لاتفوتها كلمة
واحدة مما يقال وبين النظر للطفل الذى ملك عليها شعورها ولم يترك أية فرجة
إنتباه لأى إنسان آخر من الموجودين ولاحتى والدها فيما بدا له الأمر الذى
أشتد له قلقه فقد كان يتوقع إنتزاع
الطفل منها وإيداعه دار الرعاية الإجتماعية تمهيدا لتسليمه للأم التى " ستستولى " عليه لمدة عام !
وجاءت
اللحظة الحاسمة التى أتم فيها الضابط محضره وقصدت السيدة "مآثر" الفتاة
تبغى تسلم الوليد منها فأبت وتوسلت إليها بحق زمالتها وصداقتها لإبنتها
وحبها له و" يقينها بأنه ليس يتيما ولا لقيطا "! وقبل أن
يزل لسانها
بكلمة تغضب أباها عن حقيقة ما تتوهمه من أصله سكتت هنيهة إبتلعت فيها ريقها
متبادلة معه نظرة تهدئة لخوا طره ! ثم واصلت إستعطافها للمفتشة أن تتركه
لها فهى ستعرف كيف تعنى به ودون أجر أو تكلفة من أى نوع على "الدار" فضلا
عن أنه معها لن يعانى كاليتامى الآخرين مرارةالحرمان وإفتقاد الأم فترددت
" أم صديقتها " وبانت عليها علائم الحيرة ووجهت نظراتها للأب تستنجد به
على إبنته ليتولى عنها أمر إستخلاص الطفل وتسليمه لها بنفسه .. وبدوره أدرك
الوالد دقة الموقف فهم إلى إبنته يحايلها بكافة الوسائل لتخطو تلك الخطوة
ولم يقنعها غير قوله بأنه يعدها بالعمل على إستعادته لأن النظام يتطلب تقدم
شخص راشد لحضانته وسيحادث " ماما " فى هذا الشأن ويقنعها أما الآن فإن
الإجراءات تستلزم تسليمه للدار كما ترى ولاتخشى عليه فهى دار الرعاية لا
الدار الآخرة !
واستسلمت
الفتاة المغلوبة على أمرها وبدأت تتخلى عنه والدموع تنهمر من مآقيها - مرة
اخرى – صامتة .. مصبورة كأنهم ينزعون قطعة من فؤادها او كبدها ! وما إستقر
بين أذرع المفتشة حتى ملأ جو المكان ثانية بسرسعة صراخه التى كان لها وقعا
يمزق نياط القلب فلم تتحمل الفتاة ووثبت تروم إستعادته فما كان من والدها
إلا أن وثب بدوره وأمسك بها قبل أن تحط وثبتها على المفتشة وانتزعها
مبعدنها من المكان ولم
يجد
بدا من تهديدها " بأنها إن لم تهدأ وتسير معه إلى البيت فى صمت كالقطة
الأليفة التى تحب أصحابها فسيغضب منها ويخاصمها للأبد ! " وكان فى يديه
وصوته حسما وحزما اشعرها بالخوف من أن يستعمل
حيالها سلطة الأب وتتغير
معاملته لها فتفقد مكانتها لديه - وبالتالى لدى باقى أفراد الأسرة الذين
كانوايمشون على هداه - وهو على كل حال مايزال إلى تلك اللحظة أبا محبا
وعطوفا وعليها ولو تلك المرة أن تنصف نفسها وتبرهن للجميع انها فتاة عاقلة
وجديرة بحبهم !
وعاشت الأسرة الأيام التالية تعانى محنة لم يعرف لها أحد
مخرجا فإن رضوى إلتزمت غرفتها لاتبرحها ولا تتكلم أو تأكل أو تشرب أو تذهب
للمدرسة وزارتها زميلاتها وعلى رأسهن إبنة السيدة " مآثر" وبذل الجميع
جهودا مضنية لإقناعها بالخروج من عزلتها فإن هذا مسلك لايليق بفتاة مهذبة
مثلها وسيضربها فى صحتها قبل مصلحتها الدراسية التى ستنتهى بها حتما إلى
الرفت لتجاوزها مدة الغياب المسموح بها دون تقديم العذر الرسمى المقبول
والذى يتمثل فى شهادة طبية تثبت مرضها من جهة مسئولة .. وفطن والدها إلى
هذا فأخذ إحتياطاته للحصول على الشهادة فإن إبنته بهذه الحال التى إكتنفتها
مريضة فعلا وتستحق العلاج واعتبارها بأجازة مرضية حتى تبرأ .. وبوسيلة ما
أقنع طبيب الصحة المدرسية بالحضور للمنزل وإجراء الكشف به ولو أن هذا
الإجراء غير مطروق إلا نادرا .. وإذا كان قد ضمن بهذا عدم رفتها من القيد
بالمدرسة
بيد أنه كان والأسرة كلها فى قلق شديد لأن هناك خسارة مؤكدة من عدم تلقيها
علومها الدراسية وفقدانها درجات أعمال السنة والإختبارات الشهرية التى
تدخل فى المكون العام لدرجات النجاح فى إمتحان نصف العام أو آخره .. فاذا
عليهم أن يفعلوا لتدارك الأمر ؟ أيققون لها رغبتها فى إقتناء الطفل أم
يواصلون رفضهم مع ما فى هذا الرفض من مخاطر وشيكة الوقوع ....
تابع ....
الجزء السابع (الأخير)
وقد
بدات بعض بوادرها تظهر على حالتها الصحية فقد هزلت وبدأت تفقد وعيها
أوقاتا طويلة من شده ضعفها وحزنها مما ينذر بفقدان حياتها وهذه أكبر جريرة -
بل أكبرنقمة - ممكن ان تصيب أبا أو أما أن يفجعا فى إبنتهما الأثيره إلى
قلبيهما وقد كان بأيديهما إنقاذها .. فماذا عليهما أن يفعلا ؟ ..إن الأمر
لم يعد يحتمل إنتظارا ...
وقد جاءت والدة زميلتها مفتشه الشئون
الإجتماعيه لزيارتها لما علمت بتدهور حالتها واستقبلتها أمها وأبوها ببالغ
الترحاب وقد إنتعشت البنت قليلا مع ضعفها وعدم قدرتها على مغادرة الفراش
فقد أتعش ذلك آمالها فى إستعاده الطفل .. وتوهج هذا الأمل أكثر لما رأت
الأب والأم يتبادلان خلسه حديثا هامسا بعد أن أسرت الضيفة فى آذانهما خبرا
خمنت أنه - على الأرجح - يتعلق بالطفل - وقد كان يخصه فعلا لكنها لو ألمت
به لتضاعفت مواجعها لأنه منذ فارقها ممتنع عن الرضاعة ويواصل الصراخ ليلا
ونهارا إلى أن يفقد الوعى وقد أعادته الأم البديلة للدار مخافة أن ينفق
منها وتحمل ذنبه ! والغريب إمتناع أى من النسوة اللائى كن يتنافسن عليه
للحلول محلها فقد إنتشر خبره .. وإذن .. إذن تسلل إلى نفس الفتاة بصيص
نوريبدد بعضا من ظلام اليأس والقنوط وبالذات حين إستدعيا السيدة (مآثر) الى
مشاركتهما الحديث وغاب ثلاثتهم فىمحادثه طويلة بصوت منخفض ويبدو أنهم
توصلوا الى قرار هام مفاجىء .. إذ وقف الأب على مسافة من باب الغرفة
ووالدتها الى جانبه بينما تقدمت منتهى أملها إليها قائلة بنبرة خفيضة كلها
رقه وعطف وشفقه :
- ليكن يارضوى .. وافقت والدتك مشكورة على إستلام الولد وحضانته !
فدبت
فى قلبها فرحة وسعادة أعادت لون الورد إلىوجنتيها وجعلتها تهب من نومها
واقفة على فى حركة غير محسوبة ولاطاقة لها عليها وما هى إلا أن خذلتها
ساقيها بعد بضع ثوان إنهارت على اثرها محطمة على الفراش وكأنها كومة عظام
بلا لحم ولا أوردة أو جلد يشى بكل ما يحتويه من معطيات الحياة .. وهرعت
الأم إليها وفى إثرها الأب واحتضناها بشدة وحنان وأقاما عودها واحدا من
الخلف والأخرى من الأمام ليمنعانها من الإنهيار النهائى على حين كانت كرباء
الفرح تنتتفض فى خلاياها وتستدعى كل ما فى هذه الخلايا من دماء وتحيل
لونها الأبيض الشاحب الذى كان أقرب إلى لون الملاءة التى تتغطى بها لتدارى
مظاهر إنهيارها الصحى إلى لون أحمر خفيف واسترعى التغير الجسدى الذى دبت به
روح جديدة أنظار أمها وأباها والضيفة فاستنارت الوجوه وابتهجت النفوس
وسألت الفتاة وهى تنهنه ولاتكاد تملك أعصابها من فرط بهجتها وسرورها بكلمة
واحدة مقتضبة :
- متى .. ؟
أجابت أم صديقتها وكأنها تنتحل كدبة :
- غد .. غدا !
تمتمت فى وناء ورجاء :
- غدغدا .. ؟! ولماذا لايكون اليوم .. ؟
أجابتها وهى تستعد للإنصراف :
- سأبذل ما فى وسعى ..
وحيت
الأب والأم ودلفت صوب باب الخروج وكان لوقع كعب حذائها وهى تنقر أرضية
الصالة الخارجية فى أذنى رضوى صوت الموسيقى .. آه .. لشد ما تحبها وتقر لها
بالعرفان بالجميل .. إنها أجمل وأرق مفتش
شئون إجتماعية فى مصر وإنها لن تنسى فضلها عليها ما عاشت !
- أمى .. أمى الحبيبة الفاتنة .. الطعام .. ! طعام كثير ! أريد طعاما كثيرا .. فته ..وشوربة خضار .. وأرز مفلفل .. ودجاج بلدى !
وترامى إلى سمعها صوت تلفاز الجيران وتلك المغنية الفرنسية المصرية المولد الشبراوية النشأة تصدح لحنا محببا إلى نفسها مغنية:
- غنوه حلوه وكلمتين .. حلوه يا بلدى !
فرددت معها اللحن وهى تتراقص بخفة من ضعف فوق السرير وإستخفها المرح والجذل وبدت أنها تذكرت بغتة أمرا هاما فهتفت :
-
الأخبار .. تقارير المراسلين ! إفتحوا التليفزيون ! .. أخبار القنوات
الفضائية .. من فضلكم .. إفتحوا التليفزيون ! .. أخبار فلسطين ! أخبار قذف
الطائرات والدبابات للبيوت واستشهاد الأطفال والنساء والشيوخ !
أيها
العالم الظالم أتساءل .. من يضرب من ؟ .. من يدافع عن نفسه .. المسلح بكل
ما عرفه البشر من صنوف الأسلحة فى الأرض والبحر والجو .. المحظور منها قبل
المسموح ! والشعب الذى كله جيش .. أم المدنيين العزل والشعب الذى بلا جيش
وكل أسلحته بسبب الحصار الذى يضربه العدو والعالم كله .. صنعت فى الورش
البدائية للحدادين ذوى الكور!! ولا أكثر من الطوب والحجارة والنعال !
والزجاجات الفارغة والمقاليع والنبال ! من يضرب من ؟ .. من المهاجم المعتدى
.. ومن المدافع الأعزل .. من .. من .. من .. ؟
وراحت تكرر الكلمة
بإنفعال عارم حتى نال منها التعب كل منال وهوت إالى حيث لاتشعر ولا تدرى
ثانبة دون أن تأكل ثريدا ولا أرزا .وذكرى نقر الكعب العالى لحذاء المفتشه
تنقر هذه المرة رأسها تلك التى زهبت ولم تات بالرضيع البائس لافى نفس اليوم
ولا فى اليوم التالىولا حتى بعد أسبوع ودون أن تتصل لتقدم عذرا أو
تبريرا.. الأمر الذى تدهورت له حالة البنت كثيرا وأوشكت أن تقضى نحبها لولا
أن عناية الله تدخلت إذ أن الم شعرت بدوار ورغبة توالت فى القيىء فأخذها
الأب للطبيب وكانت مفاجأة لامعقولة أن يعلن لهما الطبيب أنها حامل فى
الأيام الأولى ! ولم يصدق الأب .. لم تصدق الأم وتبادل الأثنان نظرات
الذهول والفضول فقد كانا لايفهمان ولايجدان تفسيرا لتلك العاطفة وهذا الحب
الذى إندلع لهيبه بينهما فى الشهر الأخير منذ بدأت إبنتهما تطلبهما بطفل
وكأنها كانت تحثهما أن يأتيا لها بأخ أو أخت .. وكلما ساءت حالتها النفسية
من جراء عدم تحقيق أمنيتها كلما بعثرالوالدان - بإفراط - هذا الحب بينهما
فيما يشبه الدفاع عن حياة إبنتهما إعتقادا منهما أن الأرض الخصبة صارت
جبوبا لاتنبت زرعا ولكن هاهو الطبيب يعلن أنها أنبتت فلم يصدقا سمعهما
وحاوراه بأن ذلك من رابع المستحيلات لأن الطمث - علامة إستمرار الخصوبة –
قد إنقطع تقريبا عن الأم فى العام الأخير وتقريبا وليس قطعا لأنه كانت هناك
آثار بسيطة لاتذكر فهل يوجد فى علم الطب وصف لمثل هذه الحالة .. أجابهما
الطبيب مبتسما :
- لايوجد
فى علم الطب وصف إلا حيثما تحدثنا عن الحمل الكاذب ! وقد يكون هناك ثمة خطأ
فى حساباتكما ولكن يوجد فى علم وقدرة ورحمة الخالق سبحانه ما هو أكبر من
ذلك . .
نكس الأثنان رأسيهما علامة على الإيمان والتسليم وغمغما فى صوت واحد :
- ونعم بالله .. هو القادر على كل شىء .. حمدا لله .. هذا أجمل خبر سمعناه فى حياتنا ..
وشردا بتفكيرهما بعيدا وبانت عليها علائم الشرود فتساءل الطبيب :
- ماذا .. ؟
فأجاباه بصوت واحد أيضا :
-
لا.. لاشىء .. لاتشغل بالك بنا .. إنما نفكر فى إبنة عزيزة علينا ستطير من
الفرح عندما تسمع الخبر ! رحمة الله وسعت كل شىء .. والحب يصنع المعجزات
فعلا !
وسكتا هنيهة ثم تبادلا نظرة تفاهم وابتسامة عاطفة إستطردا بعدها بالقول دفعة واحدة :
- معك حق قد يكون هناك ثمة خطأ فى حساباتنا ..
- أفندم ؟!
قالها
الطبيب بلهجة متسائلة كأنه لم يسمع فأسرعا يجيبان وهما يخطوان خارجا وقد
تأبط أحدهما ذراع الآخر وفرحة وليدة تغمرهما بالحب وتعيد إليهما إحساس
الشباب وذكريات الأيام الخالية الجميلة :
- لا.. لاشىء.. لاتشغل بالك ..
وضحكا سويا وأضافا :
- السلامو عليكو .. !
وفى
البيت كانت تنتظرهما مفاجأة ثانية سعيدة إذ ألفيا السيدة " مآثر " فى
إنتظارهما ورضوى جالسة بعيدا عن غرفة نومها وهى تهدهد على رجليها الوليد
وتكاد أن تلتهمه بعينيها وشفتيها وتضعه على صدرها فى مكان القلب كأنها تروم
أن تخبئه داخله ولاتبدوعليها علامات المرض فقد شفيت تماما .. وبمجرد أن
وقع بصرها على والديها ألقت بالطفل فى أحضانها وهتفت فى جذل ومرح :
- تفضلى با ست ماما إبنك !
وتساءلت الأم وهى شاردة غائبة الذهن :
- إبنى ؟!
على
حين قامت السيدة مآثروبيدها سجل وأوراق وطلبت إلى الأم أن توقع عليها
فوقعت دون أن تقرأ والضيفة تعتذر عن الأسبوع الذى تأخرته وعزت ذلك لبطء
الإجراءات بينما الأب يطالع فى سرور ماتوقع عليه
زوجته
وشريكة حياته وبعد ان إنتهت أودعت المفتشة الأوراق والسجل حقيبة عملها
بعناية وأناقة وسلمت على الجميع بحرارة ودلفت صوب باب الخروج وكان لوقع "
بوز " حذائها وهى تنقر بأقدامها فى همة أرضية الصالة الخارجية وقع
الموسيقى فى أذنى رضوى وبغتة تغير لونها وبان عليها أنها تذكرت شيئا هاما
فأسرعت بالسيدة قائلة فى أعقابها قبل أن تختفى وهى ترفع عقيرتها بالصياح
لتسمع :
- لاتنسى تحرير شهادة له ...
وسكتت برهة تنهدت إبانها ثم أضافت :
- إسمه .. يوسف .. خليل .. جامع !!
وعندما سألها والدها بعد عودتها إليهم :
- أية شهادة ؟
أجابنه بكل عزة وثقة وبساطة :
- شهادة حياة ......
تمت بحمد الله.
موضوع رقم… 3343 -*- مساهمة رقم… 16170 |
|