-
أرسل القائد يونج إلى سايبي و شون ليتدارسوا الموقف الحالي بعد أن وصل عدد
أتباع تاي في جزيرة آش إلى ما يقرب من أربعين ألفا من الفلاحين و ما أن
جلس الأثنين أمامه حتى قال موجها حديثه إلى سايبي : ما رأيك الآن يا سايبي؟
لقد وصل أتباع تاي إلى أربعين ألفا و قد علم الأمبراطور بأمرهم و أظنه
سيرسل إلينا و إلى جيش الشمال لكي نسير إليهم,أتظنهم قادرون على المواجهة؟.
قال سايبي في سخرية : لا أظن سيبقى منهم أربعون أبلها إذا سمعوا فقط بتوجه جيوش الأمبراطور نحوهم.
- صاح يونج في انفعال شديد: ماذا؟ ألم تكن أنت صاحب فكرة الأسطورة؟ أكنت تسخر مني؟ من تظن نفسك أيها ال....
قاطعه سايبي في هدوء: على رسلك أيها القائد, لا أحد يجرؤ على السخرية منك , ولكني لم أكن صاحب فكرة هذه الأسطورة المخترعة السخيفة.
هدأ القائد قليلا و قال: ولكنك قلت لي أن الفلاحين لا يحاربون ويقاومون لأنهم يؤمنون بأسطورة و لن يغير من حالهم سوى الإيمان بغيرها
-
هذا صحيح يا سيدي ولكني لم أقل أنهم ينقصهم الإيمان بأسطورة بلهاء مثل
التي كانوا يؤمنون بها, سيدي إن الإنسان من الممكن أن يتظاهر بالإيمان
بأسطورة حمقاء لأنها تنقذ حياته و حياة عائلته و لأنها تنأى به عن الدخول
في مواجهات ستكون عواقبها وخيمة, و لكنه لن يؤمن أبدا بأسطورة بلهاء ستجلب
له الموت.
- رائع, وماذا ترى الآن أيها الفيلسوف؟
-
أرى أن نحذر تاي و من معه حتى يتمكنوا من الهروب في الوقت المناسب قبل
وصول قوات الشمال, فنحن لن نستطيع تقديم المساعدة في هذا الوقت, فمواجهة
جيش الشمال في آش لن يكون أمرا حكيما فالجزيرة قريبة من معقلهم و سيتفوقون
علينا بالإمدادات السريعة, كما أن القيام بمثل هذا الأمر سينبه الإمبراطور و
يجعله يزيد من احتياطاته هنا في الجنوب.
لم يعلق يونج على كلمات سايبي
وحول بصره إلى شون الذي كان جالسا في صمت يحاول أن يعد نفسه للإجابة على
السؤال الذي وجهه إليه يونج: وأنت أيها الجندي شون ما رأيك؟
- أنا
أتفق مع سايبي في كل ما قاله و لكني أرى أن أمامنا فرصة ذهبية لكي نقلب
الطاولة على الإمبراطور بل ونتخلص من جيش الشمال نهائيا.
نظر الاثنان إليه في دهشة وقال له يونج: وكيف نفعل ذلك أيها الجندي شون؟
نظر
شون بطرف عينه إلى سايبي ففهم يونج أنه لا يريد التحدث أمامه فأشار إلى
سايبي بالانصراف فغادر في هدوء وإن كانت بدأت المخاوف تساوره تجاه خطة شون
المقترحة, فقد كان يعرفه جيدا, كان شديد الذكاء ولكنه في نفس الوقت كان
شديد القسوة.
أتت
الأوامر بالفعل من الأمبراطور للقائد يونج بتوجيه خمسين ألفا من الجنود
نحو جزيرة آش و أرسل إلى قائد الجيوش الشمالية لتسيير العدد نفسه إلى
الجزيرة.
وما أن علم سايبي بالأوامر حتى سار إلى يونج و سأله: ماذا نويت أن تفعل يا سيدي ؟
أجابه القائد في برود : سننفذ الأوامر بالطبع أيها الجندي, سنرسل الخمسين ألفا
- ستحاربون بجانب جيوش الشمال وتقاتلون تاي و من معه من الفلاحين الضعفاء؟
- بل سننقذ الفلاحين الضعفاء
- كيف يا سيدي؟
- ستعلم كل شئ في حينه يا سايبي فلا تتعجل
- و هل أذهب معهم؟
- كلا يا سايبي, ستبقى هنا بجانبي
لم
يشعر سايبي بالاطمئنان مطلقا و إنما كان يراوده شعور قوي بأن يونج لم يقل
له الحقيقة فقرر الذهاب إلى شون لعله يستنبط منه بعضا من الحقائق المخفية.
- أراك قد جهزت نفسك للرحيل يا شون
- هذا حقيقي يا سايبي فنحن ذاهبون الآن
- أشعر أنكم تخفون عني أمرا هاما
- لا تقلق يا عزيزي لن نتأخر كثيرا, سنعود قريبا
قريبا جدا....
سار
ت الجيوش متجهة إلى جزيرة آش و لكنها لم تكد تبتعد بأكثر من مسيرة يوم
واحد حتى انحرف معظم الجيش إلى أحد الأودية المختبئة خلف الجبال وأقامت
معسكرها هناك و لم ينطلق نحو الجزيرة سوى خمسمئة رجل يتقدمهم شون.
كانت
الجزيرة تقع في وسط بحيرة كبيرة في شمال شرق الإمبراطورية و تحيط بها
الأشجار العالية من جميع الجوانب وكان لا يربطها باليابس سوى جسرين خشبيين
أحدهما في الشمال و الآخر في مواجهته تماما في جنوب الجزيرة
وصل شون
و رجاله إلى جزيرة آش في الليل و توقفوا عند الجسر الجنوبي فأرسل شون
ثلاثة من رجاله إلى داخل الجزيرة ليتاكدوا من وصول جنود الشمال و لم يمض
وقت طويل حتى عادوا يؤكدون وصولهم وانتظارهم حتى الصباح لكي يبدأوا
المعركة.
كانت هذه المعلومات كفيلة بأن يبدأ شون و رجاله في التحرك,
انطلق الرجال يعبرون الجسر و ما أن وصلوا إلي آخره حتى أضرموا فيه النيران
حتى انقطعت وسيلة اتصال الجزيرة الأولى بما حولها من اليابسة ثم قسموا
أنفسهم فريقين سار أحدهم شرقا و الآخر غربا ودار كل منهما حول الجزيرة و هم
يشعلون النيران في أشجارها الضخمة حتى تقابل الفريقان عند الجسر الشمالي
فعبروا جميعا ثم فعلوا به كما فعلوا بالأول فانقطعت كل صلة للجزيرة بالأرض و
صارت كتلة هائلة من النيران تخرج من وسط الماء.
عاد
شون ورجاله إلى الوادي حيث بقي الجيش و سار ثلاثون ألفا منهم إلى الشمال
للقضاء على ما تبقى من جيوش الشمال في عقر دارهم بينما سار العشرون ألفا
الباقية عائدين إلى العاصمة حيث كان يونج و من بقي معه من الجنود في
انتظارهم للقيام بالضربة القاصمة بالهجوم على القصر وعزل الإمبراطور وهي
الضربة التي لم تأخذ منهم جهدا كبيرا حيث لم تكن هناك مقاومة تذكر, و ما أن
انتهت المهمة حتى قرر سايبي أن يسجل احتجاجه على الطريقة الوحشية التي
تعامل بها شون مع تاي وأتباعه في جزيرة آش
- معذرة يا سيد يونج و
لكني لا أفهم كيف تدعي أنك تفعل كل هذا من أجل الفلاحين و في نفس الوقت
توافق شون على أن يحرق الآلاف منهم من دون أي ذنب ارتكبوه؟
قالها سايبي بعصبية شديدة ولكنها لم تغضب يونج , فقد كان يتوقع منه أكثر من ذلك.
-
أنا لا أدعي شيئا يا سايبي, فكل ما فعلته هو من أجل الفلاحين, قل لي يا
سايبي ما قيمة هؤلاء الذين تتحدث عنهم أمام مئات الآلاف الذين سيحيون حياة
كريمة و من بعدهم الملايين من الأجيال القادمة التي ستنعم بثمرة هذا
التغيير؟ إن كل معركة لابد فيها من خسائر يا سايبي و أنا اخترت أقل
الخسائر.
سكت يونج قليلا ثم أردف : طالما كانت غايتك نبيلة فلا تبالي كيف, فمتى حققت للناس ما يبغون سينسى الجميع كل شئ.
- لا أظنهم سينسون, فهم لن يؤمنوا بك أبدا.
ضحك
يونج ضحكة قصيرة بدا فيها الاستهزاء ثم قال : مرة أخرى يحدثني سايبي
الفيلسوف عن الإيمان, حسنا, ربما لا يكونون مؤمنين بي و لكنهم يؤمنون بقوتي
فلن يجرؤوا إلا على طاعتي, والجنود يؤمنون بأموالي فدراهم قليلة أكثر من
التي كان الإمبراطور يعطيها لهم جعلتهم يوالونني و ينقلبون عليه.
- لقد كان الإمبراطور أيضا يظن ذلك
قطب يونج حاجبيه و بدت عليه العصبية , صاح : ماذا تعني؟
- أعني أن هذا الإيمان لن يدوم فغداً يأتي من هو أقوى منك و يدفع أكثر منك.
(بعد عامين من الانقلاب)
-
أدار سايبي مفتاح الزنزانة الحديدية الكبيرة و تناول صينية خشبية عليها
بعض قطع الخبز و كوبا من الماء ثم دخل الزنزانة وخاطب الرجل الهزيل الجالس
في الركن المواجه للبوابة : لقد أحضرت لك الطعام يا سيد يونج
نظر إليه يونج في هدوء و قد بدا و كأنه قد مرت عليه خمسون سنة وليس سنتان فقط و قال : اجلس يا سايبي فأنا أريد ان أتحدث إليك
جلس
سايبي و أنتظر أن يبدأ يونج بالكلام فقال : ربما كان يجب علي أن استمع
لرأيك يا سايبي: الفلاحون لا ينسون والجنود لا يشبعون, فعلى الرغم من كل
الصلاحيات التي أعتيطها للفلاحين فقد أرادوا أكثر منها تعويضا لهم عن هؤلاء
الذين أحترقوا في آش بينما الجنود كانوا يعلمون أنهم هم الذين يحمونني من
سخط الفلاحين فكانوا يؤلبونهم عليَ لكي يبتزوني و يطلبوا المزيد من الأموال
وفي النهاية اجتمع الكل ضدي و ألقوا بي إلي هنا.
لم يشأ سايبي أن يقاطعه فصمت ولكنه اضطر إلى الحديث عندما توجه إليه يونج قائلا: ما رأيك يا سايبي؟ كيف يمكن قيادة هؤلاء؟
- ما زلت عند رأيي يا سيدي, إنه الإيمان.
-
ثم تابع: ليس الإيمان بالأساطير ولا بالقوة والأموال, إنه الإيمان بقوة
كبرى يمدهم بها الإله, قوة تحكمهم بالعدل والحق, قوة يتحاكم إليها القوي
والضعيف فتنصر المظلوم ولو كان هو الضعيف, قوة تحفزهم على القتال في سبيل
الحق والعدل وتعد من يفعل ذلك بالعز والتمكين في حياته الأولى و النعيم
الدائم في الحياة الأخرى, قوة تتوعد من يتخاذل ويتقاعس بالذل والمهانة في
الحياة الأولى والعذاب المقيم في الحياة الثانية, قوة لو آمنوا بها ورعوها
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم, لو آمنوا بها لغلب العشرون مئتين و المئة
ألفا من غير المؤمنين, قوة خالدة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من
خلفها.
- نظر إليه يونج متأملا ثم قال: أنت تتحدث عن معجزة يا سايبي.
- نعم, ستكون أعظم معجزة في التاريخ وحتى تتحقق فلن يكون هناك سلام ولا عدل.
- وماذا لو جاءت لقوم ثم لم يؤمنوا بها؟
- هم إذا لا يستحقون العيش, وحينئذ ستختار هي من يستحقها.
سكت يونج ثم مد بصره من النافذة أمامه إلى الأفق الواسع ثم تمتم في صوت خافت:
- نعم يا سايبي, و إلى أن يحدث ذلك فما علينا سوى انتظارها .......
انتظارالمعجزة.........
موضوع رقم… 3342 -*- مساهمة رقم… 16168 |
|