تحديد
الأهلة عمل إنساني وعمل ديني. أما الوجه الإنساني فيه فيرجع إلي تقدير
الشهور والسنين في حياة الناس. وأما الوجه الديني فيه فيرجع إلي تقدير
الواجبات الشرعية مثل الصيام في رمضان، والحج في عرفة، وحساب العدة
لبعض المطلقات والارامل. وقد علق التكليف الديني وجوب الصوم ونحوه علي
رؤية الهلال دون تحديد صفة تلك الرؤية بالعين أو بالعلم، وإن كان
المتبادر إلي الذهن هو رؤية العين المجردة، لكن لم يمنع ذلك الاستعانة
بما تم اكتشافه بعد من العدسات والتلسكوبات التي كانت بداية حقيقة لتطور
دراسة علم الفلك أو علم الهيئة. وعلم الفلك من أقدم العلوم الإنسانية،
فقد استطاع الصينيون القدماء في أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد رسم
خرائط للنجوم وسجلوا كسوف الشمس وخسوف القمر، وتمكن البابليون سنة
سبعمائة قبل الميلاد من استنباط أوقات تكون فيها الكواكب أقل اقتراباً
وأقصي ابتعاداً عن الشمس، وحدد قدماء المصريين بداية الربيع بملاحظة
موقع الشّعري اليمانية، ألمع نجوم السماء. كما استخدموا معلوماتهم
الفلكية في بناء معابد ذات حوائط متجهة إلي أجرام سماوية بعينها. ولم
يعرف العرب قبل العصر العباسي الكثير عن علم الفلك، وأول من عني به هو
أبو جعفر المنصور (95 : 137هـ) بعد أن أمر بترجمة كتاب »السند هند
الكبير« والذي اختصره الخوارزمي، وانطلق العرب بعد ذلك في تطوير هذا
العلم وأدواته حتي إن معظم أسماء النجوم المعروفة حالياً هي من وضع العرب
ولا زالت تستعمل بلفظها العربي في اللغات الأخري. وبدأت الثورة في علم
الفلك بنظرية مركزية الشمس للكواكب حولها، والتي قدمها البولندي
كوبرنيكوس في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وانتهت نظرية بطليموس
القائمة علي مركزية الأرض. وفي أوائل القرن العشرين قدم أينشتاين نظرية
الجاذبية أو النسبية العامة، ثم انطلق علم الفلك بدون حد بعد إطلاق
الأقمار الصناعية بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين، واختراع
التلسكوبات البصرية العملاقة. وكان الفقهاء قد اختلفوا قديماً في حكم
اعتماد الحساب الفلكي لتحديد ميلاد الأهلة، وذلك علي مذهبين في الجملة.
المذهب
الأول: يري عدم مشروعية اتخاذ الحساب الفلكي طريقاً لتحديد الأهلة،
وهو قول أكثر الفقهاء قديما حتي شنع الإمام مالك علي أصحابها فقال: »إن
الإمام الذي يعتمد علي الحساب لا يقتدي به ولا يتبع«. وممن قال بهذا
المذهب الحنفية في المعتمد، وهو المشهور عند المالكية وأكثر الشافعية،
وهو مذهب الحنابلة والظاهرية وأكثر أهل الشيعة، وانتصر له الصنعاني..
وحجتهم:
1- أن النصوص الشرعية اعتمدت الرؤية البصرية للهلال،
وألزمتنا في حال عدم تلك الرؤية أن نعتمد الحساب العددي بإكمال شعبان
ثلاثين يوماً، فلم يكن لنا بد من ذلك. قال تعالي: »فمن شهد منكم
الشهر فليصمه« (البقرة: 185).. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي
»صلي الله عليه وسلم« قال: »صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي
عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين«..وأخرج مسلم عن ابن عمر أن النبي »صلي
الله عليه وسلم« ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: »الشهر هكذا وهكذا
وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن
أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين«، قال المازري عن جمهور الفقهاء:
»المراد إكمال العدة ثلاثين، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين،
لأنه لا يعرفه إلا القليل، والشرع إنما يعرف بما يعرفه الجماهير«.
وقال الصنعاني: »في هذا الحديث دفع لمراعاة المنجمين، وإنما المعول
عليه رؤية الأهلة، وقد نهينا عن التكلف«.
2- أن علم الفلك قائم
علي التنجيم والظن، وقد قال ابن بزيزة: »قد نهت الشريعة عن الخوض في
علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع«. وقد أخرج أحمد وأبو داود،
وصححه الألباني عن أبي هريرة أن النبي »صلي الله عليه وسلم« قال:
»من أتي كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل علي محمد«..كما
أن النبي »صلي الله عليه وسلم« نفي العمل بعلم الفلك فيما أخرجه
الشيخان عن ابن عمر، قال: »إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب أشهر هكذا
وهكذا«، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
المذهب الثاني: يري
جواز اتخاذ الحساب الفلكي لتحديد الأهلة، وهو قول بعض أهل العلم حكاه
ابن رشد عن بعض السلف وهو مذهب مطرف بن الشخير من كبار التابعين، وحكاه
ابن عابدين في رسائله عن بعض الحنفية، وذكره القرافي المالكي قولاً في
المذهب، وبه قال ابن سريج والقاضي أبو الطيب من الشافعية، وحكاه
الماوردي عن بعض الشيعة، واختاره ابن قتيبة من أهل الحديث. وحجتهم:
1- أن الأمر بالصوم جاء معلقاً علي شهود الشهر أو رؤية الهلال، ولم تبين النصوص طريق الشهادة أو الرؤية، فصح بكل طريق.
2-
أن الرؤية العلمية أقوي من الرؤية البصرية، لقيام العلم علي قواعد وأسس
ثابتة بخلاف الرؤية البصرية التي ترجع إلي الذمة، وهي غير منضبطة.
ووصف الأمة بالأمية لا يعني بقاءها كذلك، فإن علمت وجب عليها العمل
به.
3- أن بعض روايات الحديث جاءت بالإشارة إلي الرؤية العلمية مثل
ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر، أن النبي »صلي الله عليه وسلم« قال:
»لا تصوموا حتي تروا الهلال، ولا تفطروا حتي تروه، فإن أغمي عليكم
فاقدروا له«. ولم يقل ثلاثين، فدل علي علم الحساب والفلك.
4-
أن علم الفلك قد تطور وصار أماً لعلوم أخري مبنية علي الحس والتجربة
وليس علي التخمين كما يظن البعض، والعمل بالعلم واجب، كما قال تعالي:
»قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون« (الزمر: 9). وقد اختار
المصريون العمل بالحساب الفلكي لتحديد الأهلة بعد تطور هذا العلم
وانتشاره، وذلك عن طريق رضاهم بإعلان دار إفتائهم عن الأهلة اعتماداً
علي الحساب العلمي، وعملاً بقول بعض أهل العلم بحجيته ومنهم مطرف بن
الشخير من كبار التابعين، ومنهم بعض الحنفية والمالكية والشافعية،
ومنهم بعض أهل الحديث كابن قتيبة، وذلك استناداً إلي وجوب العمل
بالعلم وتقديمه علي الظن. ولم يكن اختيار المصريين للرؤية العلمية
وتقديمها علي الرؤية البصرية قديماً، وإنما وقع ذلك مؤخراً بعد تطور
علم الفلك والاقتناع برسوخه. وعندما ترك المصريون مذهب الجمهور الذي يري
عدم مشروعية العمل بالرؤية العلمية أو الفلكية في الأهلة لم يكن ذلك
تجرؤاً، وإنما كان لتعقل الفتوي، فالجمهور كان يري علم الفلك تنجيما
وتخميناً، فكان معذوراً فيما انتهي إليه. أما وقد صار علم الفلك
حقيقة رياضية حسية لا مراء فيها، فالعقل يوجب العمل بمقتضاه. ومع ذلك
فإن المصريين لا يعيبون علي من يتمسك بالرؤية البصرية ويترك الرؤية العلمية
في الأهلة لاستنادهم إلي رأي فقهي معتبر، وحسب الجميع البحث عن الحق من
وجهة نظره، والعمل بما يطمئن إليه القلب.
موضوع رقم… 4314 -*- مساهمة رقم… 23484 |
|