حين عدت من المدرسة ذلك اليوم . . ألقيت نفسي على السرير وأخذت أبكي وأبكي بحرقة . .
فقد شعرت حقاً كم أنا ضعيفة ومهانة . .
لا أعرف كيف سمحت لها أن تقول عني هذا الكلام . . لقد وصفتني بالمنافقة والكاذبة رغم أني أبعد الناس عن هذه الصفات . .
لكنها مشكلتي أنا . . نعم . . إنه ذنبي . .
لم أعرف كيف أعبّر عما أريد قوله . .ولم أرد أو أدافع عن نفسي . . يا لي من غبية حمقاء . .!
هكذا أخذت أردد على نفسي . . وأنا مستمرة في البكاء والنشيج . .
كنت أعلم أني على حق وأنني إنسانة بريئة مسالمة لكن سمر التي كانت تكرهني استغلت عبارة بسيطة قلتها لتقلب الموقف عليّ وتحرجني بكلامها الجارح أمام البنات . .
لا أعرف لماذا سكت تماماً ولم أعرف كيف أرد..
إنني هكذا دائماً جبانة ومترددة ولا أعرف كيف أتحدث مع الآخرين.. ثم أعود لغرفتي لأبكي على نفسي المهانة..
- (مي.. هيا دورك..!)
- ...
- آآ.. عـ.. عفواً أستاذة..لا أستطيع .. تفضلي موضوعي..
- كلا يجب أن تقرئيه بنفسك..
وأمام إصرار المعلمة كنت أقف وقطرات العرق تتصبب وأنا أشعر أن الدنيا تدور بي، وأن الجميع ينظر إلي.. لكني أحاول أن أتماسك وابدأ بالقراءة وأنا أتنفس بعمق.. ودقات قلبي تتصاعد حتى ينتهي الموضوع بسلام..
هكذا كانت تمر عليّ حصة التعبير برعب لأني أضطر خلالها للوقوف والحديث أمام الجميع..
كان والدي يعيرني دائماً لأنني لم أرث عنه قوة الشخصية والحديث بطلاقة.. فقد كان أبي اجتماعياً يعرف الكثير من الناس ويتحدث بطلاقة مع الجميع.. لكني كنت أعتقد أن لكونه مديراً لشركة كبرى دوراً في ذلك.. أما أمي فقد كانت مدرسة وتمتلك أيضاً قدراً من قوة الشخصية.. لكنها لم تفهمني يوماً أو تشعر بالعقدة التي أعاني منها..
ورغم كل العوامل الأسرية الجيدة التي كانت تحيط بي، حيث لم أتعرض للعنف أو الإهانة في المنزل.. لكن شيئاً ما كان يجعلني أشعر بالقلق والخوف دائماً.. كنت أخشى دائماً مجالسة الآخرين ولا أعرف كيف أتحدث أمامهم.. حتى أنني أصبحت منطوية ومنعزلة وقليلة الصداقات بسبب هذا الأمر..
وما زاد حدة الأمر أن الجميع في أسرتنا كان يتخذني مادة للسخرية نظراً لسرعة ارتباكي وضعف شخصيتي.. فقد كنت مشهورة بأنني أكثر من يحطّم الأواني ويدلق السوائل على المائدة.. حتى أنني أصبت بإحراج شديد يوم أن عرضت علي ابنة عمي أن أساعدها في صب القهوة لبعض الضيفات فقالت لي وهي تضحك بخبث:
- لا حبيبتي مي.. حتى تكبين القهوة عليهم وتحرقينهم مساكين؟!
حين كنت في المرحلة المتوسطة.. كنت شديدة النحف.. مما جعل نحفي سبباً آخر لإحساسي بالنقص عمن حولي، كما ساهم في إظهار ضعفي وارتباكي الدائم.. فزاد هذا من مشكلتي وجعلني أنطوي أكثر بعيداً عن نظرات الاستهزاء أو العطف.. وحين كبرت ودخلت المرحلة الثانوية.. تحسنت حالتي بعض الشيء، لكنني كنت لا أزال أشعر بأنني دائماً الأضعف.. وأن الآخرين أقوى مني وأفضل مني.. فحين تتكلم الفتيات عن موضوع ما وأود مشاركتهن أجد لساني عاجزاً عن الحديث فأتلعثم في كلامي وأقلب الكلمات والعبارات بشكل مضحك فيتحول انتباههن للضحك على أخطائي فيحمر وجهي وأزداد إحراجاً وأتمنى لو لم أنطق بحرف..
وحين تخرجت من الثانوية.. ازداد وضعي سوءاً.. فلم أعد أحضر اجتماعات أقاربي إلا نادراً وتحت إلحاح أمي الشديد.. وبقيت حبيسة غرفتي أقرأ وأطالع الكتب علها تغنيني عن وجود صديقة في حياتي..
لكني بدأت أشعر حقاً بالمرض.. لقد أدت بي هذه العزلة لمزيد من القلق والخوف من مواجهة الآخرين.. فأصبحت أشعر برعشة في أطرافي حين أضطر للجلوس مع ضيفة ولا أستطيع رفع نظراتي عن الأرض من شدة الارتباك..
لم أعد قادرة على الحديث حتى مع أفراد أسرتي فقد بدأت اللعثمة تزداد في كلامي وأصبحت أشعر بأن الجميع يهزأ بي وينتظر أخطائي حين أتكلم..
كنت أعلم أنني مريضة وأن بي خللاً نفسياً يمكن علاجه.. ولكن أحداً لم يراع ذلك بي.. لقد ازداد استهزاء أهلي بي دون أن يعلموا أن هذا يزيد حالتي سوءاً.. كانوا يعتقدون أني أفعل هذا بإرادة مني، ولم يقدروا يوماً العذاب الذي أتعذبه داخل نفسي بسبب هذه المشكلة.. لم يستوعبوا يوماً أني أقضي ليالٍ طويلة وأنا أبكي لأني لم أستطع شرح عذري لشخص أو لأنني تسببت في ضحك الجميع على تصرف قمت به..
إنه أمرٌ مؤلم.. مؤلم بشكل لا يمكن وصفه.. أن تشعر أنك مخلوق ضعيف.. وأن الناس كلهم أعداءك.. ولا يفهمونك ولا يتركون لك المجال لتثبت نفسك أمامهم..
لكن أهلي لم يقدروا الألم الذي أعيشه.. ولم يسعوا مرة لأن يفهموني..
كنت أشعر بالوحدة والغربة في قعر بيتي.. فالجميع مشغول.. أبي بعمله وخروجه المستمر.. وأمي بعملها وزياراتها العائلية.. وأخوتي بلعبهم وبالكمبيوتر..
وأنا الوحيدة في هذا البيت التي تعيش دون أن تتحدث مع أحد أو يتحدث معها أحد..
وبعد سنوات مريرة من المكوث في البيت.. بدأت أشعر بنظرات الناس تزداد قسوة.. (لماذا لم تتزوج؟) .. (هل ترفض الزواج؟) .. (مسكينة.. لا دراسة ولا عمل ولا زواج؟!)
شعرت بالأنصال الحادة تمزق قلبي وكأن هذا هو ما ينقصني.. المزيد من الاستهزاء والاحتقار..
عندها شعرت بأني بدأت أصاب بعقدة نفسية حقيقية وبخوف شديد جداً من مقابلة الناس.. أصبحت أكرههم وأخاف من الجلوس معهم لدرجة الرعب..
وذات مرة حين حاولت أمي إجباري على النزول للسلام على بعض القريبات في منزلنا.. رفضت ثم أخذت أبكي وحين ازداد إصرار أمي.. أخذت أصرخ بقوة لم أصرخ مثلها من قبل.. فقد شعرت أني لو سقت إلى الموت لكان أرحم على قلبي من أساق للجلوس مع الناس الذين أخاف منهم وأكرههم.. وحين رأت أمي الرجفة التي سيطرت عليّ انتابها ذعر شديد.. ولم ألبث حتى شعرت بأنفاسي تتوقف من شدة التأثر والخوف والصراخ..
حاولت أن أسترد أنفاسي لكني لم أستطع..
كنت كمن يغرق ويبحث عن نفس واحد.. دون جدوى..
أيقنت أن الموت قريب مني جداً.. وضعت إحدى يدي على عنقي وأخذت أشير بيدي لأعلى أطلب نفساً وأنا أرى أمي تبكي وكأني في حلم.. وكان وجهها الباكي آخر ما رأيت.. ثم.. وقعت في إغماءة..
وحين أفقت.. كنت في المستشفى.. حيث كل شيء أبيض..
وعرفت من أبي الذي كان ودوداً جداً معي.. أني أصبت بانهيار عصبي حاد.. وأن طبيبة نفسية ستشرف على علاجي.. شعرت لأول وهلة بطعنة حادة.. طبيبة نفسية؟.. لماذا.. هل ينقصني أن ينعتني الناس بالمجنونة؟!
لكن تمالكت وقررت خوض التجربة..
كانت طبيبة حنونة وطيبة.. وكانت تذكرني دائماً بالله وبالأجر الذي ينتظرني على احتسابي لهذا الابتلاء.. أشعرتني بأني قوية وأني قادرة على تجاوز كل هذا.. وكل ما أحتاجه هو فقط شيء من الإرادة والعزم..
وحين سألتني.. لماذا يا مي؟ لماذا تركت نفسك تعانين من هذا الرهاب الاجتماعي الحاد طوال تلك الفترة دون علاج؟ طأطأت رأسي وأخبرتها أن أحداً لم يساعدني ولم يقدم لي العون.. إن أحداً لم يستمع يوماً لي ولم يناقشني في سبب مشكلتي.. لذا لم أعرف كيف أواجه هذا المرض الذي أخذ يزداد مع انعزالي عن الآخرين..
وضعت الطبيبة أوراقها جانباً على سريري.. ثم قالت..
إن المسألة يا عزيزتي ليست في من يدفعك نحو القرار.. إنه قرارك أنت.. لو أصبحت صديقة لنفسك وواجهتها بهذه المشكلة من قبل لعرفت أن الحل سهل جداً بإذن الله.. لقد كان أمامك خيارين: إما مواجهة نفسك وتقوية شخصيتك مع الاستعانة بالله.. وإما بالبحث عن طبيبة نفسية صالحة تفرغين لديها ما تشعرين به من رهاب.. إنها مشيئة الله أن تتأخري في العلاج لكن من رحمته أن استطعت الآن البدء بتجاوز هذا المرض ولله الحمد..
ومع تكرر جلسات العلاج.. بدأت أشعر بتحسن كبير.. لم يكن التحسن راجعاً للعلاج ذاته ولكن للثقة التي بدأت الطبيبة تزرعها في نفسي.. كما كان لحديثي المتواصل معها أثر في تحسن أسلوب حديثي..
لقد تغيرت حياتي بعد ذلك.. خاصة حين التحقت بدورة الإلقاء التي نصحتني بها الدكتورة.. والتي شجعتني على تنسيق أسلوب حديثي..
لم يتغير شيء من حولي.. فأبي وأمي لم يتغيرا كثيراً.. لا زالت الفجوة بيني وبين أسرتي كبيرة.. ولا زلت أشعر أن أحداً لا يفهمني.. لكني عرفت معاني أجمل للحياة..
وعرفت أنك ترى الحياة كما يصورها لك عقلك أنت..
لم تكن حياتي هي الأفضل لكنها لم تكن الأسوأ.. وهذا ما لم ألتفت إليه..
لقد كانت لدي الكثير من المميزات لكني لم أكن أرى سوى عيوبي فصرت أشعر بالنقص والضعف..
أما الآن.. فقد اختلفت الصورة.. وأصبحت أحاول النظر للمميزات وللجانب الأفضل.. وأدعو الله أن أبقى هكذا حامدة شاكرة متوكلة على الله.. مهما ساءت الظروف..
منقوول
موضوع رقم… 3171 -*- مساهمة رقم… 12861 |
|