ضاعت وسطية الإعجاز العلمي, بالرغم من كل ما قدمه في زماننا الحاضر من مُعجزات مشرقة هدت العقول و القلوب إلى معرفة طريق ربها، فالذي يريد بناء الإعجاز العلمي على غير أساس سليم يقول (دعونا نفسر كل شيء في القرآن و السنة بالعقل و نظريات العلم الحديث, و لا اعتبار عندهم لأقوال السلف الصالح لأنها تعارض أفكارهم)، و الذي يريد الهدم لكل بناء و إن كان على أساس سليم يقول (الإعجاز العلمي بدعة و لا حجة لها)، فأين الوسطية في الطرح يا أمة الوسط ؟. فالناظر إلى مُجمل أبحاث الإعجاز العلمي يرى تفاوت ملحوظ في قوة الطرح، فهناك من تمسك بقواعد العلوم الشرعية, فأبدع و أفاد, و هناك من تجاوز القواعد العلمية المتفق عليها من قبل علماء الشريعة وعلماء الإعجاز العلمي، فأفرط و قال على الله و رسوله بغير علم. و من المؤسف أن هناك كتابات و أراء غير حيادية غضت طرفها عن الصحيح الجاد من أبحاث الإعجاز العلمي, فقامت بنسف جهد العاملين فى الإعجاز العلمي ببضع كلمات أطلقتها الألسن أو كتبتها الأقلام بدون دراسة جادة لقضية الإعجاز العلمي, فكان التفريط. وما بين أهل الإفراط و التفريط, وقف العاملون المخلصون في قضايا الإعجاز العلمي صامدون صمود أهل علم الحديث الذين لا يهنأ لهم بال إلا بإظهار الصحيح من السقيم، و بالرد المفحم على كل من أنكر الإعجاز العلمي لمجرد انه لا يفهم طبيعة هذا العلم.
* بعض مظاهر الإفراط
من بعض مظاهر الإفراط الخروج بمعنى النص عن مدلوله اللغوي الواضح إلى معاني مبالغ فيها لا يحتملها النص من أي وجه, بدعوى أن في النص استعارات مكنية ظهرت للباحث فقط و لم يفقهها السابقون الأولون, و ذلك كتأويل النجم الثاقب بأنه الحيوان المنوي يثقب البويضة,في قول الله تعالى {و السَّمَاء وَالطَّارِقِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ. إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ. فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} 1-6 الطارق، مع أن سياق الآيات و أقوال كل المفسرين تقول بأنه أحد نجوم السماء الموصوفة بالطرق و الثقب, و لا علاقة بين النجوم و ذكر خلق الإنسان من الماء الدافق كما هو واضح من سياق الآيات.
ومن صور الإفراط أيضا الافتتان بعلوم الغرب حتى و لو كانت نظريات في إطار التجريب, و كأن العلم الغربي حق لا مراء فيه, مما أدى إلى اعتقاد بعض المسلمين في هذه النظريات التي لم تثبت بعد على أنها حقائق تصلح لتفسير الآيات أو الأحاديث.
ومن أمثلة ذلك المسارعة في تفسير الفتق بالانفجار في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}الأنبياء30، لمحاولة التقريب بين الآية و نظرية الانفجار الكبير (Big bang)، مع أن كلمة الفتق من الناحية اللغوية لا تعنى أبدا الانفجار و لم تستخدم كلمة الفتق في القرآن أو السنة بهذا المعنى، ثم أن كلمة الانفجار تؤدى إلى الفصل الكامل بين أجزاء الشيء الواحد مع الهدم و العشوائية في البناء, أما قوله تعالى (ففتقناهما) فتعنى التحكم التام من الله لخلق عالم منظم لا عشوائية فيه، و لو كانت كلمة الانفجار من الناحية العلمية صحيحة لذكرها القرآن بجلاء بدلا من كلمة الفتق فيقول الله (كانتا رتقا ففجرناهما) بدلا من (ففتقناهما)، حيث أن لفظة الانفجار لها مشتقات في القرآن كما في قوله تعالى {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ}يس34. ثم أننا إذا سألنا العاملين في دراسة نشأة الكون عن نظرية الانفجار الكبير لقالوا بمنتهى الوضوح أن ما وصل إليه العلم حتى الآن غير كافي لتفسير كيفية إيجاد السماوات و الأرض، و أن نظرية الانفجار الكبير لازلت في حاجة إلى كثير من الإصلاحات و التعديلات حتى تصل إلى فهم قريب من الحقيقة.
وقد وردت هذه الحقائق في عدد مايو- يونيو 2009 من مجلة العلوم الأمريكية في مقالة بعنوان النشاط الجديد في الكوسمولوجيا (علم الكون) لكاتبها د. باتريك بيتر (Patrick peter)، مدير المعهد الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا، و قد أبدع هذا العالم في هذه المقالة في التفريق بين ما هو قطعي الثبوت و ما هو ظني في تحليل علمي دقيق لنظرية الانفجار الكبير.
ثم أخذ كاتب المقال في مناقشة الأمور التي مازالت ظنية في النظرية و منها الحالة التي كان عليها الكون قبل الانفجار و هل نشأ من لا شيء أم انه كان يسبقه كون آخر أسماه بالكون السابق للانفجار الأعظم. كما أن كاتب المقال بدأ يميل إلى رفض كلمة الانفجار و طرح بدلا منها سيناريو آخر واعتبره أكثر احتمالا و هو أن الكون الذي نعيش فيه نشأ كمنطقة متجانسة و صغيرة جدا في كون آخر فائق الكثافة، ثم أخذت هذه المنطقة الصغيرة في الانتفاخ و التوسع, مع العلم بأن د. باتريك بيتر لم يجزم بهذا النموذج الجديد بل فتح الباب لظهور نماذج أخرى ربما تكون أكثر علماً و دقة. و من أمثلة الافتتان بعلوم الغرب أيضا المسارعة في تفسير نشأة الإنسان والكائنات الحية بنظرية التطور الدارونية مع محاولة التوفيق بين بعض آيات القرآن الكريم وبين أقوال التطوريين, مع أن الدارونية في ثوبيها القديم والجديد لم ترقى بعد أن تنتقل من الفرضية إلى النظرية لغياب الدليل العلمي الذي يدعمها, ولوجود خلاف كبير بين المشتغلين بها, بين مؤيدين ومعارضين.
وليس العجب هنا في اختلاف علماء التطور حول صحة تلك النظرية, فهذا هو حال العلم الذي يقوم على الفرضيات والجدليات حتى يصل إلى حقائق ومسلمات, ولكن العجب كل العجب ممن يسارع في نسبة فرضية إلى القرآن الكريم بالرغم من المعارضة الصريحة بين القرآن وهذه الفرضية, فصريح القرآن والسنة وما فهمه سلف الأمة, على أن الله خلق آدم بيديه من الطين و بلا ذكر للتطور, كما حكى المولى تبارك وتعالى عن خلق باقي الكائنات الحية بالخلق الخاص في أزواج, وأنه جعل لكل زوج الذرية الخاصة به والهداية الخاصة لكيفية المعيشة, وكل ذلك بلا ذكر للتطور. إذا أيها المسلمون وسطية منهج الإعجاز العلمي تُحتم علينا التوقف أمام هذه الظنيان، فلا ينبغي أبدا أن نأخذ الظني من أي نظرية ونقارنه بكتاب الله، فالذي نؤمن به إيماناً قاطعاً أن وصف القرآن هو أدق وصف لأنه من عند الله تعالى موجد هذا الكون (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) 14 الملك، فلا يمكن تأويل حقائق القرآن إلا بعلم يقيني قطعي الثبوت وحتى يقترب العلم في ألفاظه من الألفاظ الدقيقة للقرآن, لا نملك إلا أن نقول كما قال الأولون {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }آل عمران7.
ومن صور الإفراط أيضا القول بقدرة بعض العبادات على الشفاء الجزئي أو المطلق لكثير من الأمراض بدون وجود نص من القرآن أو السنة يثبت العلاقة الصريحة بين تلك العبادة والشفاء من الأمراض, كما هو الحال في العسل مثلا الذي نص الله على قدرته الشفائية بنص صريح لا يقبل الإنكار {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}النحل69.
بل إن بعض من أفرطوا في هذا الاتجاه استدلوا ببعض الأحاديث الضعيفة والمنكرة لإثبات أقوالهم، ومن ذلك حديث (صوموا تصحوا)في باب الصيام، وفي باب الصلاة استدلوا بحديث (صلى فان في الصلاة شفاء) أو (الصلاة شفاء لكل داء) أو وصف قيام الليل بأنه (مطردة للداء عن الجسد)، مع العلم بأن أغلب الروايات التي ذكرت أن قيام الليل مطردة للداء قد ضعفها أهل العلم، وحتى الرواية التي يصح سندها وهي (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد ) قال عنها الألباني في كتاب الجامع الصغير وزيادته, الحديث صحيح إلا جملة (مطردة للداء عن الجسد) فهي ضعيفة. ومبدأ الوسطية في الطرح يفرض علينا الجمع بين النصوص الصحيحة لنصل إلى القول الأمثل في علاقة أي عبادة بالنواحي الصحية, فلا مانع أبدا من أن تكون هناك حكم صحية من وراء بعض العبادات, ولكن إظهارها يستلزم الدليل الصحيح والصريح. ولا شك أن ربط العبادة بالأمور الصحية بلا دليل صريح, هو مسلك خطير لأنه يُخرج العبادة عن أسمى معانيها وهو الطاعة المطلقة لأمر الله, إلى معنى دنيوي بحت وهو وصف هذه العبادات بالرياضات الروحية والجسدية، وفي هذا الفعل تقليل كبير من شأن العبادة، فقد يدعى أحد الكفار بأنه يمارس نوع معين من الرياضات البدنية أو الروحية تحقق له نتائج صحية أفضل بكثير مما هو موجود في عبادات المسلمين، وهذا هو المشاهد في العالم الغربي فنجد عندهم ارتفاع في نسبة الممارسين للرياضة ونسبة الأصحاء ونسبة كبار السن، وما حدث هذا إلا كنتيجة طبيعية للأخذ بالأسباب والسنن الربانية التي لا تحابى أحد. وإذا ادعى النصراني أو اليهودي أو أصحاب الديانات الروحية أن العبادة عندهم تريح أبدانهم وأرواحهم، فهل هذا دليل على صدق ديانتهم، أم دليل على أن اطمئنان النفس والرياضات البدنية من الأمور التي تريح البدن. فهل يعقل أن نتخذ من الرياضات البدنية أو الروحية عبادات لكونها تحقق من الصحة ما لا تحققه بعض العبادات الإسلامية، فلا شك إذا في أن القول بأن العبادة رياضة وصحة أمر مبالغ فيه، وغير منصوص عليه في صريح القرآن والسنة